The Sea Elder......

شيخ البحر

منجل ومطرقة


ظهيرة يوم 16 آذار 2011، وبينما كنت في طريقي لموعد عمل، مررت قرب إحدى صروح النضال العمالي العالمي "اتحاد نقابات العمال" وداعبت أذني موسيقى لطالما عشقتها عندما كنت لا أزال أبحث عن مثال أعلى في حياتي، كانت موسيقى لمارسيل خليفة لأغنية باسم الجسر، تقول يعبرون الجسر في الصبح خفافاً، أضلعي امتدت لهم جسراً وطيداً.

وكان الهواء اللطيف يلوح عدداً من اللافتات المعلقة من حولي، كتب عليها المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي السوري، وشعار المطرقة والمنجل، الأحمر اللون، ذلك الأحمر الذي صبغ أعلاماً عديدةً استقت من دم الشهداء والمناضلين وجودها ومعناها. رقص قلبي طرباً للموسيقى ولمعت عيناي بريقاً أشاع القشعريرة في جسدي، كم أعشق هذا اللون وهذه الموسيقى وهذا الشعار.

وأنا أقترب من المكان كنت أرى حولي سيارات فارهة الطول والعرض، متشحة بلون الغربان، وتحمل شعارات وأسماء رأسمالية صرفة، وأفكر بيني وبين نفسي وألمح لرفيق دربي بأن ثمن ضوء إحدى هذه السيارات يكفي بإطعام عائلة فقيرة لمدة تزيد عن الستة أشهر.

كنت أعزي نفسي وأنا أسير بين السيارات بأن لا زال في القلب أمل، وأن احتفالاً كالذي يحصل قريباً هو أمل، أمل لعائلات فقيرة كثيرة، وكانت نفسي تنصت بانتباه، ودون تعليق، ولكن بحذر، خوف كل نفس على صاحبها من الصدمة، الصدمة التي تعثرت بها بعد عدة خطوات، عندما اكتشفت بأن هذه السيارات التي سخرت منها لعدة دقائق، كانت هي نفس السيارات التي هبط منها قيادات وأصدقاء الحزب الشيوعي السوري، نظرت ذاهلاً إلى إحدى هذه السيارات التي كانت تقل عجوزاً عمره ينوف على ثمانين عاماً يهبط من سيارته التي يقودها سائق خاص.

تجاوزت المهنئين والمستقبلين وذهبت لموعدي الذي لم يكن بعيداً عن الاتحاد، والغصة تملأ صدري، وقلبي شارد وعقلي ذاهل.

لقد كان أمام الاتحاد عدد من السيارات تبلغ أثمانها ما يقارب عمر أولئك العجائز الذين هبطوا منها، وما يكفي لإطعام فقراء بلدي لعدد أيام ليس بقليل، وله أن يقارب السنة، أو يزيدها بقليل.

عندما خرجت من موعدي، وعدت أدراجي باتجاه مقر عملي، كان علي أن أمر ثانية من أمام اتحاد نقابات العمال، ولكن هذه المرة كانت موسيقى مارسيل خليفة قد توقفت، ومن داخل الاتحاد كان صوت أحد الرفاق يعلو فوق ازدحام الشارع المجاور، وهو يتبجح أمام رفاقه بانجازات الحزب وتوجهاته المستقبلية تحت مظلة الجبهة الوطنية التقدمية ويحلل بدقة وضع البلد الداخلي والاقليمي والدولي، ويمتدح ثبات موقفنا من القضايا المصيرية، وربما جاء على ذكر مكتسبات الطبقة الكادحة والعاملة، واقتصاد سوريا الذي يسجل معدلات نمو عالية، ونسبة البطالة التي تضمحل مع خطط الدولة الخمسية.

غير بعيد عن ذلك المكان، كان هناك آخرون من سكان بلدي يتظاهرون أو يعتصمون، عائلات المعتقلين، معتقلي الرأي والضمير، الذين يقضون محكومياتهم في سجن مدني عوضاً عن سجن صيدنايا-السياسي، كي لا نعطي أي ذريعة لمنظمات دولية أو محلية باستغلال الحادثة والقول أن لدينا مساجين سياسيين.

أولئك المتظاهرين كانوا يمارسون حقهم الدستوري في الاعتصام والتظاهر والتعبير عن النفس والمطالبة بالإفراج عن ذويهم، معترضين على العفو الذي طال العديد من الأفراد الذين كانوا في السجون "المدنية" واستثنى أولئك الذين يملكون ألسنة أوهنت أو كادت أن توهن نفسية الأمة، واستقوت بجهات خارجية معادية للثورة.

كنت أبتعد عن اتحاد نقابات العمال وعن صوت الرفيق الثوري الذي أمضى نصف عمره مناضلاً أو على الأقل عضواً في حزب مناضل، والنصف الآخر أو ما عاشه منه في التنصل من النصف الأول، وفي بالي حق الانسان الذي يعيش في هذا البلد في التعبير عن رأيه، الحق في التظاهر والاعتصام، حق كل فرد فينا أن يعبر عن فيض المشاعر تجاه فلسطين، تجاه تونس ومصر، تجاه مجازر ليبيا، تجاه ما يجري في اليمن والبحرين، حقه في أن يعبر عن ما يجول في خاطره من أحلام وأمنيات لهذا البلد، هذا البلد الذي نحمله في داخلنا جميعاً، حملناه في داخلنا مذ كنا نتعلم أول دروس الحياة.

لم أكن أعرف في تلك اللحظات، أن المتظاهرين، قد فرقوا بالقوة، وتم احتجاز بعضهم وتم اقتياد البعض منهن تحت التهديد إلى فرع أمني، تحت حجة أن بعض المنسدين يقومون بإطلاق شعارات تخالف هدف التجمع.

ربما كانوا مئة، أو مئة وخمسين شخصاً، ربما أصبحت أسماء بعضهم أو وجوههم معروفة لدى العديدن، لأنهم ناشطون في أغلب النشاطات أو التجمعات أو المطالبات. قد يكون بعضهم قد لمس سقف المسموحات في بلدي مرة أو مرات.

بعضهم قد تعرضوا لمضايقات بينما قضى بعضهم بعض الوقت في ضيافة أحد الفروع الأمنية، ربما حملوا صور أولادهم ورفاقهم وربما قال بعضهم لا للظلم ولا للتعسف، ولكنهم لا يزالون مواطنين سوريين ولا يزالون أبناء بلدي، أبناء سوريا التي تتسع للجميع، دون تمييز، ديني او طائفي او مذهبي او طبقي او اجتماعي.

لم أكن هناك، ولم أكن في التجمعات التي حصلت قبلها، ولكن أحس بأنني مدين لهؤلاء المعتصمين بهذا النص، عله يكون شاهداً ولو لم يكن شاهد عيان، كي لا تمر وقفتكم دون ذكر أو أهمية، كي لا تكونوا وحدكم في الساحات والطرقات.

عودة للمنجل والمطرقة

احترام هذا الشعار المثل، واجب على كل من يؤمن به، وعليه، لا أقدر أن أفهم قيادياً في حزب شيوعي يركب سيارة كتلك التي رأيتها ظهر اليوم.

إن لم تعودوا قادرين على حمل هذا الشعار، فاتركوه. فهو ليس لكم أصلاً، هو لعامل يحمل مطرقة ولفلاح يحمل منجلاً. ولانسان يحترم الاثنين كما يحترم نفسه.

إهداء النص

إلى كافة معتقلي الرأي والضمير، إلى كافة الفلاحين والعمال في سوريا، إلى الانسان القابع في مكان ما داخل كل منا بانتظار حريته.

لك أنتِ، التي تحتاج إلى خطوة صغيرة لتتغلب على خوفها الداخلي.

سوريا للجميع....






عربي – كردي – شركسي

أرمني – تركمان – آشوريون

يهودي - مسيحي - مسلم

ملحد – متصوف

سني – شيعي – علوي – درزي

اسماعيلي – مرشدي – يزيدي

أرثوذكس – كاثوليك – سريان

أرمن – لاتين – بروتستانت



كم لي أن أقسم ما ذكرت أعلاه إلى أقسام أصغر؟ وكم من التقسيمات أغفلت دون قصد ولكن لعدم معرفتي بها؟


مرت سنة 2010 وانقضت، مر كل منا بالكثير، أما أنا فقد أتيحت لي الفرصة أن أتعرف بلداً من جديد.

في أغلب سني عمري الماضية، كانت سوريا هي الخريطة التي درستها في كتب الجغرافيا، وحفظتها من هناك عن ظهر قلب،

أحببتها بالفطرة فهي البلد الذي ولدت فيه وتعلمت لغة أهله، وقليلاً من لهجاتها أو لكناتها.

لم أعرف الكثير من التقسيمات القومية أو الدينية أو الطائفية، فقد نشأت في أسرة حتى المتعصب فيها لم يكن ليحدثني عن هذه التفاصيل.

قرأت عن الأنبياء جميعاً كما الصحابة وتاريخ المنطقة قصصاً وروايات، لا أزال أحفظ الكثير منها، ولم أدرك كطفل أو مراهق معنى هذه القصص وانعكاسها في المجتمع وتقسيماته.

كبرت وبت أعرف القليل الذي يزيد مع كل يوم، ولكن وكوني تعلمت حب البلد بالفطرة، لم أتوقف يوماً لأسأل ما الذي أحبه وكيف أحبه؟؟؟

بالعودة إلى 2010، كان الطريق من دمشق إلى الساحل السوري، هو الطريق الوحيد الذي أعرفه تقريباً، فأنا من اللاذقية، وأقربائي يقطنون في مدن الساحل، والباقي منهم يعيش في دمشق، حمص التي أمر بها بخجل ودون أن أعرفها حقاً هي التحويلة التي لم أكن أفهم ماذا تعني، التحويلة التي تفصل بين طريق الساحل (طرطوس – بانياس – جبلة – اللاذقية) وطريق الداخل (حماة – إدلب – حلب) والبادية والمنطقة الشرقية (تدمر – الرقة – دير الزور – الحسكة)

مدينة واحدة منها مفارق طرق تأخذك إلى مدن هذا البلد وتقصيك عن مدن أخرى.


لم أزر حلب بعد أن كبرت سوى مرات قليلة، وكانت زيارة عمل أو زيارة ليلية.

أما المنطقة الشرقية والبادية فكانت أبعد من أن تصلها أحلامي.

ناهيكم عن أن جنوب بلدي الذي يحوي عدة محافظات والكثير من المدن والقرى، كان أيضاً بعيداً ما عدا القنيطرة، القنيطرة المحررة والقنيطرة المهدمة والقنيطرة المحررة بين العديد من الأقواس.

كنت اليوم في مدينة القنيطرة، وأنا أقود السيارة كان شريط الذاكرة يعرض أمامي الكثير من الصور التي التقطتها عيناي خلال 2010.

إدلب ومنها البداية، طرطوس، حماة، درعا، دير الزور، تدمر، اللاذقية، حلب، حمص. وعلى الطريق بين هذه المدن العديد من الصور وأشرطة الفيديو التي أحتاج إلى الكثير من الأقراص لأفرغها جميعاً من ذاكرتي.

بعد اكتشافي مدى جهلي بهذا البلد الذي أحب بالفطرة، بات لزاماً علي أن أعرفه، أعرف طرقه وتضاريسه، حضاراته التي مرت ولا تزال مستمرة، مدنه وقراه، سكانه وحياتهم. كي أدرك معنى الحب الفطري الغير واعي، وأرى إلى أي مدى أقدر أن أحوله إلى حب واعٍ.


بدأت مع مجموعة من الأصدقاء برنامج زيارات إلى بلدنا الذي نسكن، وفي بالي خطة غير واضحة المعالم، ولكنها واعدة، في كل شهر نقوم بزيارة لمدينة سورية، نزور آثارها إن وجدت وما أكثرها طبعاً، نمشي على أقدامنا حيث يسمح المكان، نتجول ونشم الهواء والتراب وعبق البشر القاطنين، نرى تفاصيل حياتهم بالقدر المتاح، نفهم أبعاد المكان الذي يحدد بلدنا على الخريطة، ننمي الوعي الذي يقول إن سوريا أكبر من منزلي وحارتي ومدينتي ومحافظتي، أكبر من طائفتي وديني وقوميتي، يكسر ولو بعد حين الحاجز بيننا، نحن سكان هذا البلد، يكشف الستار الذي يحجب عنا الرؤية بأن الظلم واحد والفقر واحد والاسمنت واحد والاسفلت واحد ونفوس البشر المهانة. إن البلد هذا البلد سوريا هي بلد واحد للجميع، لا أحد له الحق أن يحتكرها، أن يقول أنها بلده لوحده، هي بلد كل فرد منا، ولها علينا من الواجبات ما يضعنا أمام مسؤولية، ولنا فيها من الحقوق ما يضعنا أمام ذات المسؤولية. مسؤولية أن نحترم كوننا سوريين، أن نحترم وجود الآخر، أن نحترم حقه بالاختلاف، أن نطلب منه احترام وجودنا وحقنا بالاختلاف، أن ندرك أن معركتنا الحقيقية هي مع أنفسنا أولاً قبل العدو المحتل أو الفقر أو مصادرة الحريات أو التدخلات الأجنبية ومصالحها، أو هجرة شبابنا أو إيجاد مسكن للزواج، أو تربية طفل أو فقدان أهل، إلى العديد من تفاصيل حياتنا التي نغرق في تفاصيلها حتى الثمالة.


في زيارتنا لبلدنا ورحلة اكتشافنا لهويتنا، لم أكن قادراً على نسيان التشبيه الذي سمعته مرة عن سوريا

هل من أحد منا لم يسمع أو يرى قطعة موزاييك، تلك القطع الصغيرة الملونة التي تجتمع مع بعضها لتصنع تحفة فنية؟

تلك هي سوريا، هي مزيج من كل ما كتبت في البداية وأكثر، هي مزيج كل هذه التلاوين ومزيج عدة آلاف من السنين والمدنية والحضارة التي أنتجت لونها الخاص بها، تحفتها الفنية التي لا شبيه لها في أي مكان آخر، دون عصبية ولكن مع فردانية موزاييك هذا البلد.

الأطفال في بلدي لهم نفس البراءة، قد تسلب منهم ولكنها تولد معهم.

الشباب في بلدي لهم نفس الهموم، قد يهربون لحلول فردية أو يعيشون وهم أنهم يعانون لوحدهم، ولكنهم غارقون في أحلام تأمين حياة إنسانية أفضل، حتى لو كان يبدو للعديد منهم أن البديل هو حياة مادية مريحة أو مترفة.

الشيوخ في بلدي لهم نفس النظرة، تلك النظرة التي تنظر بأسف إلى هذا البلد، متمنية لو قدرت أن تضع بيد شبابه فرصة أفضل

الأرض في بلدي هي المختلفة، مختلفة لأنها لا تعترف بالتقسيم.

تدرك أنها كلٌّ واحدٌ، وأن استنزافها من قبل قاطنيها أو بعضهم لن يعود بالخير على أحد منهم.


عندما أخذت طريق الداخل أول مرة، كانت الرهبة والدهشة تتملكني، فقد اكتشفت أن طريق الساحل ليس هو الطريق الوحيد في سوريا، وتآلفت روحي مع الطريق ومع البشر الذين تجمعوا على طرفي الطريق، منشئين مدناً وقرى، منشئين حياةً فيها من الخصب والخصوصية ما يميزها كثيراً عن مدن الساحل.

وكانت رحلة البادية بين دمشق ودير الزور مروراً بتدمر، إحدى أمتع الرحلات في حياتي، فلطالما حلمت أن أزور البادية وأن أتعرف طبيعتها وخصوصيتها، وكانت الحقيقة أمتع وأجمل وأغنى من الحلم.

ذلك الامتداد اللانهائي للمسافة تلك العلاقة بين لون الرمل ولون الجمال ولون المسكن الذي يقطن فيه بدو وحضر تلك المنطقة، ذلك السكون الذي يلف مدناً وبشراً، تلك الحكمة والفطرة التي تراها بعيون طفلٍ يلعب كما في كهلٍ يقود قطيعاً.


أما الجنوب، فكما يقول درويش، فكان قصياً عصياً علي، لأن الجنوب يصيب مقتلاً مني في كل مرة أدير وجهي صوبه. ففي الجنوب مدينتي المحتلة، وبلدي المحتل. سمعتها مراراً، فلسطين لنا أكثر من الفلسطينيين، ولم أكن أدرك معنى الكلمة، إلا عندما زرت القنيطرة، الشعور بأن جزءاً منك محتل مغتصب مأخوذ منك بالقوة، قاتل. ولكن المؤلم أكثر، هو شعورك بالعجز عن فعل أي شيء.


أشعر بالكره تجاه قوات الأمم المتحدة، المدعوة بقوات حفظ السلام وفك الاشتباك، قوة غريبة موجودة على أرضي تحول بيني وبين أرضي المحتلة، واتفاق مهين أبقى جبهة الجولان مقفلة في وجوه العديدين من شباب بلدي. منظر المرصد المزروع في قمة تل أبو الندى يشعرني بالغصة في كل مرة أزور المدينة، منظر مزارع الرياح التي تحول هواء بلادي إلى طاقة يسخرها المحتل في خدمة مصالحه، وكمية أمطار تفيض عن حاجة المنطقة بأسرها، وتسحب لتروي مستعمراته

كل هذا يحدث تحت أعين دوريات الأمم المتحدة، التي تتصرف كما لو أنها صاحبة الأرض، فتمنع أصدقاء لنا من مرافقة بعثة دولية لجلب التفاح من الأرض المحتلة ليتم بيعه في بلده الأم


أطلت الحديث، كما جرت العادة، وربما كان النص غير مترابط أكثر من العادة، ولكن وكما العادة، لم أعتد على الكتابة بفعل إرادي بعد، فأكتب عندما تجتاحني الكلمات، وما زلت أفي بوعدي لها، بان لا أعدل أيا من نصوصي قبل نشرها


سوريا هي نحن، نحن جميعاً، منبتنا واحد، ومصيرنا واحد. الخلاص ليس فردياً والحل ليس فردياً.

دعوة مفتوحة للجميع، لمشاركتنا رحلة اكتشاف سوريا من جديد، لعل في هذا طريقةً لفهم ذلك الحب الفطري الذي يدفعنا جميعاً للقول "أنا سوري" حتى ونحن نحس بأننا نستحق أكثر في هذا البلد.


تونس من قبل و الآن مصر مرة أخرى

سمعت كثيراً عن وزن مصر و حضورها في وجدان البشر القاطنين في المنطقة، التي لم أعد أقوى على تسميتها بالعربية أو الإسلامية، فما شهدناه في الأيام الماضية، لم يعد يقبع تحت مظلة إله أو دين أو قومية

فالشعب قرر الحراك، و جاءت نتيجة تحركه لتغير وجه التاريخ مرة جديدة

تتطلع أنظار شعوب المنطقة و كلها أمل بحركة شعب مصر، ذلك الشعب الذي كلما تحرك غير وجه الدنيا

طال مخاض مصر و كان الوليد حسن الوجه و كامل التكوين، يشبه أباه الشعب و أمه مصر، البشر الذين حموا المتحف من السرقة، البشر الذين حموا إخوتهم في الميدان حين كانوا يمارسون شعائرهم الدينية، البشر الذين كانوا ينظفون الميدان عند انتهاء المظاهرات، هم نفسهم الذين ناموا بين عجلات الدبابات و تحت جنازيرها، كيلا يعطوا فرصة للمخبرين و كلاب السلطة أن يقوموا بأفعال تشوه صورة الشيء العظيم الذي قام به شباب و بنات و كبار و صغار مصر

ذلك الشاب و الفتاة الذان عقدا قرانهما في ميدان التحرير، ذلك الشيخ الذي أتى ليشارك أبناء وطنه تحويل الحلم إلى واقع

الزغاريد التي انطلقت بعد أيام من الانتظار، أيام كانت عصيبة على الجميع و لكنها كانت فرحاً و حريةً و تحرراً من الخوف، من الظلم، من سنين الجوع، كان صوتها يصم الآذان، آذان كل المتخاذلين و المتقاعسين، و الخائفين، وصلتنا زغاريد مصر حتى دمشق، حتى بيروت و تونس و الجزائر و اليمن و أطربتنا كما كانت أم كلثوم توحد أهالينا الذين كانوا يتحلقون حول راديو صغير ليسمعوا أم كلثوم تغني بلهجة مصرية زرعت عميقاً في وجدان شعوب المنطقة و لأجيال عديدة، زرعت بذرة، و تكفلتها بصوتها لتكبر، ليأتي صوت مقاومين آخرين سبقوا أو لحقوا بالثورة المستمرة من أجيال في مصر التي كانت تتحرك من تحت الرماد، بصوت سيد درويش أو الشيخ إمام، و غيرهم الكثير من حطب الثورة

أعتذر من شعب مصر، فقد شككت في قدرتهم على الحركة، في قدرتهم على قول كلمتهم، عندما زرت مصر أكثر من مرة، هزني وضع الشارع المصري، و آلمتني حالة الناس في الشوارع، و ظننت و كنت مخطئاً بأن هذا الشعب لن يفيق و يقلب الطاولة على مستبده

يسير النيل معظم أيام السنة بيسر وهدوء، وعندما يفيض، يفيض بعنف، آخذاً معه كل الطمي و الرواسب التي تراكمت معلناً عهداً جديداً و أرضاً خصبةً قادرة على حضانة موسمٍ جديد و فرح جديد، و الآن فاض نيل مصر، و علينا الآن العمل بجد، و اجتهاد لنحصد ثمار الموسم الجديد

عندما تتحرك مصر، يتحرك وجدان شعوبنا، وعندما تنام مصر، تسيطر الكوابيس على أحلام أولادنا

فلسطين تئن تحت الظلم و الاحتلال، و زاد أنينها بغياب مصر، هل لنا أن نحلم بصحوة مصر، و فتح المعابر إلى غزة المحاصرة؟ هل لنا أن نحلم أن يصل نظام وطني إلى حكم مصر؟ يكون حاضنة لصحوة شعوب المنطقة، يعمل على تحريك ملفات عالقة، منذ زمن بعيد

كان الحلم حلماً حتى استفاق شعب مصر، فاستحال واقعاً وقفت معه قوى العالم ذاهلة من إصراره

عذراً تونس لم ننسَ أنك من حركت الجمر، أنك من قلت أن الشعب إذا أراد الحياة فلا يوجد قدرة فوق إرادته، أنت من قلت الثمن و إن كان غالياً يستحق أن يدفع، لأنه لا جدوى و لا حياة في حياةٍ فيها من العبودية و الظلم و الخوف ما نعيشه

شكراً مصر، و شكراً تونس، على أمل أن نسمعها منكم قريباً

تستحقون الحياة و تستحقون الحرية، فهنيئاً لكم و هنيئاً لنا بكم

مشاعر وأفكار متلاحقة ومليئة بالوجد والعواطف تلك التي وجدت طريقها إلى هذه الكلمات، ليست لها ترتيب محدد و ليس لها هدف محدد، سوى مشاركتها معكم

أتمنى أن لا أكون قد أثقلت عليكم أو ألهيتكم عن متابعة الأخبار التي لم يعد كياني قادراً على استيعابها كلها

مساؤكم عبير ثورات طال انتظارها

لو جمعنا دموع عينينا لصارت نهراً أخذ معه كل وسخ بلادنا
لو جمعنا آهات صدورنا لصارت عاصفة أخدت معها كل تلوث في نفوسنا
لو جمعنا أحلامنا لصارت حرية شعوبنا حقيقة و أمراً واقعاً

ما فعله التوانسة و المصريين، أنهم أسقطوا حرفين من جملي السابقة محولين الجملة من ...الماضي إلى الحاضر، من الحلم للحقيقة، من الأمل إلى الفعل

للفقر وجه واحد

للفقر وجه واحد

لا أدري هل هي المصادفة؟ أم أن الحياة تضعني في طرق الفقر!!!

أم أنني أبحث أينما ذهبت عن معاناة البشر، معاناتهم المادية و الروحية.

احترت باسم المقالة أو بترتيب قصصها أو أفكارها، فهل أكتب عن الفقر في بلدي؟ في البلاد التي زرتها؟ في الكتب التي قرأتها؟

هل أكتب عنه كظاهرة مجتمعية؟ أم كنتيجة اقتصادية؟

هل أصف مشاهداتي العينية بتجرد؟ أم أحلل من مخزوني التراكمي من كتب و مقالات؟

هل للفقر وجه واحد؟

مذ نشأت كان في رأسي تحذيرٌ قديمٌ عن منطقة مجاورة لمكان نشأتي (النازحون)، منطقة قطنها ولا يزال العديد من سكان بلدي ممن نزحوا من بيوتهم و ديارهم في الجولان المحتل، ممن لم يقدروا على شراء منازل تليق بإنسانيتهم.

كان التحذير من عائلتي، بأن تلك المنطقة من المناطق المحرم علينا كصغار أن نزورها، لِمَ؟ كان السؤال و كان الجواب دوماً غير مقنعٍ.

تلك المنطقة مليئة بالمشاكل، مشاكل أمنية، سرقات، اعتداءات و ما إلى ذلك من رعب الطفولة و غموض المكان و التجربة.

و عندما كبرت وجدت أن قاطني تلك المنطقة يعانون من فقرٍ شديدٍ و نقص في الخدمات الأساسية للحياة، ماديةً كانت أم إنسانية أم معنوية. و لم تنجح محاولاتي في تبرير خوف والدتي و عزوه إلى شعور الحماية الأمومي، فقد كبرت و بتّ أرى المشاكل في تلك المنطقة بعيني. بل و تسنّت لي الفرصة بأن أرى مناطق عديدة مشابهة، يحكمها بشكل أساسي و يصبغها بطابع مشترك الفقر.

عندما انتقلت إلى ريفٍ في محافظة اللاذقية، لأقطن لمدة 9 سنين، كان التعامل مع الفقر يومياً، فمن شدة وطئته، كان علي أن أحسب مع عمتي التي لا تقرأ و لا تكتب، مصروفنا من الخبز اليومي، من بداية الشهر، كي يتسنى لنا معرفة الفائض من المصروف الشحيح أصلاً، و الذي بدوره يتوزع على عدة قنوات منها الزيت و منها المازوت للتدفئة، فلا يبقى منه سوى فروجٍ واحد في الشهر يطعم 6 أشخاص و أحياناً أكثر لتبلغ حصة الواحد منا 100غ من الدجاج أو اللحم في الشهر.

لا أزال أذكر كيف كان حذاء أي منا أنا و إخوتي و ربما أعمامي الذين كانت أنفتهم و كبرياؤهم تمنعانهم من إظهار فقرنا أمام باقي عائلات القرية، ذلك الحذاء الذي قد يكون بحاجة للإصلاح بسبب كثرة التصليحات به، خلال شتاءٍ قاسٍ يغمر المنطقة بأمطار أو ثلوج تحتاج فيما تحتاجه إلى أكثر من حذاء جديد يدفئ قدميّ.

كان الفقر مجسداً أمامي في العديد من تفاصيل حياتنا، و كنت أذهل من براعة أهل القرية في التعامل مع فقرهم، و لم أدرك إلا مؤخراً كم أثر فيّ تعاون و تماسك ذلك المجتمع مع بعضه، كيف كان الجميع و بلا استثناء تقريباً يمدون بعضهم بإمداداتٍ يحتاجها الجميع، من حطب للتدفئة أو مخلفات حيوانية لتسميد الأرض، إلى مشاركة بالمحاصيل، إلى مساعدة في عمل الأرض، وحتى في الأعمال المنزلية.

كيف كان جميع من في القرية ينظرون بعين الاحتقار لمن يتقاعس عن أداء الواجب لحماية هذا المجتمع الصغير من تأثيرات الفاقة المادية. لم يكن ذلك فقراً معنوياً بل كان مادياً بحتاً، و لكن الآن عندما أنظر إلى القرية، أجد أن الفقر المادي قد تراجع و زاد الفقر الروحي على حسابه، و أحزن. أحزن عندما أجد أن العديد من جيران بيت جدي، قد أصبحوا مكتفين، مكتفين مادياً، فانكفئوا معنوياً.

عند عودتي إلى دمشق، بعد غياب 9 سنوات، كانت المدينة غريبة علي، غريبة كمن لم يسكنها في حياته، فموقعي في الحياة قد تغير، فبينما كنت أنظر إلى الحياة كما الأشخاص من علو نصف متر، بت أرى الأشياء من أعلى، و قد أصبح طولي حوالي المترين، بت أرى التفاصيل التي كانت تبدو عوالم أخرى و أنا صغير.

بت أبحث عن معنىً، معنى لكل ما حولي، لم أستطع منع نفسي من المقارنة بين عوالم عشتها، أماكن زرتها، بشرٌ مروا في دربي أو مررت في دربهم.

حتى المدينة أمام نفسها تغيرت، و باتت بحاجة لمن يدلها على طريقها وسط انقلابات عديدة، انقلابات مجتمعية و اقتصادية، صراعات أجيال تبدأ من الأسرة و لا تنتهي فقط عند متغيرات محلية و إقليمية و دولية غيرت معالم الأرض و من عليها.

هالني اتساع المدينة، و ضيق معرفتي بها، آلمني أن مدينتي هي مدينة صغيرة بكل ما فيها من معتركات للحياة اليومية ولم أكُ أدرك بأن ما تعيشه مدينتي و أسرتي و أنا مشتركٌ لحدٍ كبيرٍ مع ما يعيشه 90% من سكان الأرض.

في سنة 2001 أتيحت لي فرصة زيارة الهند، القارة الهندية كلها كانت أمام عيني و أنا أحلق في الطائرة، طبعاً في هذه الصورة مبالغةٌ كبيرةٌ فالقارة الهندية لا يمكن أن تشاهد كلها من طائرة، مهما كانت عالية، هذا ما اكتشتفه لاحقاً. كانت إقامتي في العاصمة دلهي، و كانت العاصمة مقسمة إلى قسمين، نيو دلهي أو دلهي الجديدة، و أولد دلهي أو دلهي القديمة، بعدد سكان إجمالي يقدر في 2001 بحوالي 100 مليون نسمة، على بقعة جغرافية بمساحة نصف سوريا، و بتوزيع ديموغرافي جائر،ن حيث يقطن 80 مليون نسمة في أولد دلهي التي تأخذ ثلث المساحة أو ربعها، و 20 مليون نسمة في نيو دلهي التي تمتلك باقي المساحة.

كنت أسترق اللحظات كي أراقب السكان المحليين، في بقعة من وسط المدينة القديمة، و عندما كانت أمي مع صديقتها تبحثان عن متجر لبيع القطع الخشبية، بقعة أقل ما يقال عنها أنها زريبة حيوانات مع رائحة كريهة، كان ثلاثة أطفال يلعبون ضاحكين و الفرح يلعب على وجوههم، غير آبهين بازدحام الحياة من حولهم، هل هذا فقر؟ أي فرصة لأولئك الأطفال عندما ينظرون غلى الحياة من على ارتفاع مترين بعد نحو عشر سنين أو اكثر؟؟؟ كم أتمنى لو أستطيع مقابلتهم الآن كي أرى ما رأيهم بفاقة العيش في بلد عدد سكانه تجاوز المليار.

بعد ذلك بعام واحد زرت الإمارات العربية المتحدة، و لا أزال لا أفهم عن أي اتحاد يتكلمون؟ زرت ذلك البلد "العربي" محاولاً الفوز بفرصة عمل، تنتشلني وأهلي من الضائقة المالية، وقد توفر لي و لإخوتي و أمي فرصة عيش أفضل مالياً على الأقل، و لحسن حظي لم أوفق، و لكن ما رأيته في ذلك البلد القائم حديثاً على علاقات عمل منظمة و مستوردة بالكامل من بلاد أخرى، حتى يحس المواطن بأنه غريب عن نفسه فكيف عن الآخر، "بس بتجيب سيارة، بتشتغل 5 سنين و بتدفع بدل جيش، بتشتري بيت، بترتبط و بيصير عندك عيلة وولاد" كلمات لطالما سمعتها و سمعها معظم أفراد جيلي، من أفراد جيل سبقه. كسب مادي سرع، يوفره فرق العملة و فرق سعر الصرف، يتيح لحامل الفيزا الخليجية فرصة الانتقال اقتصادياً إلى مصاف المغتربين الذين يأتون في الإجازة محملين بالهدايا، التي كانت قيمة الواحدة منها لا تتجاوز مصروف طفل في بلد خليجي ليوم واحد.و لكن هل سألنا أحدهم عن ثمن هذه الهدايا التي يدفعها هو و أسرته من روحهم؟ و هل استطاعت المادة و النقود استبدال أسرهم هنا؟ استبدال صحبة الجيران؟ استبدال الشعور العام في هذا البلد و غيره الكثير بأمان الروح؟ بطمأنينة البال؟ براحة الضمير؟

عندما زرت مصر في سنة 2007-2008، كان في بالي زيارة لم تكن في حسبان والدتي التي استغربت بل و أبدت تخوفها من مطلبي، فقد طلبت زيارة أحياء الصفيح، و مساكن القبور، طبعاً لم توافق، و لكنني فعلتها مع صديق لي يقطن القاهرة منذ فترة، ذهبنا في الليل إلى المقطم و بقينا ساهرين حتى بزوغ الفجر، أطلت الشمس ملقية بسحرها على تمثال أبي الهول و الأهرامات الشهيرة من جهة، و ملقية الحزن و الألم في قلبي من جهة أخرى، فما شاهدته من أحياء الصفيح المتراكمة فوق بعضها كان شيئاً غير قابل للتصديق أولاً و غير قابل للوصف ثانياً، آلاف بل قل مئات آلاف من البشر يسكنون أرضاً صنعوا فيها بيوتاً من الصفيح، سمعت الكثير عن هذه البيوت و لكن المنظر كان مؤذياً أكثر، و ما كان مؤذياً أكثر هو حالة البشر المقيمين في ذلك البلد " كل سنة و انت طيب يا بيه، حمد لله على السلامة يا باشا" و عشرات الجمل المزروعة في رأس العديدين، هدفها الوحيد هو كسب جنيه زيادة، فإن لم تفلح، فعليك أن تفتش جيوبك في كل مرة تمر فيها قرب أحد المارة، في ذلك المساء و بعد أن ملأت عيني بصور مخزنة في الذاكرة لبشر ينامون في القبور، لعم تمكنهم من الحصول على منزل، استذكرت حادثة في زيارتي للهند نسيت أن اذكرها سابقاً.

عندما ركبت الباص المتجه إلى تاج محل، مع عدد من الأجانب و دليل سياحي، سمعت القصة التالية:

في أولد دلهي، تجد البشر نائمين على أرصفة الطرقات، و لكل منهم مكانه المحدد الذي يأتيه ليلاً أو نهاراً كما بيته، فيفترش الأرض و ينام. فإن أتى ووجد أحدهم نائماً مكانه، فمن الممكن له بعرف الشارع أن يقتله و يرميه للكلاب في الشارع، لأن هذه البقعة من الرصيف هي ملك له، و لا يحق لأحد أن يقطنها سواه.

نفس القصة موجودة في مساكن القبور، فهذا القبر لي و لأسرتي، وقد نموت دفاعاً عنه، إذ لا مكان آخر لنا لنسكنه سوا هذا القبر.

في الجزائر؟، وفي زيارتي الحالية في سنة 2011، زرت مدينة البليدة كي أستقل التلفريك باتجاه جبل الشريعة، على ارتفاع 1400م و في الطريق صعوداً و هبوطاً كانت صور بيوت الصفيح المحيطة بطريق التلفريك، تجتاحني كما عاصفة هوجاء، كل جمال المنطقة لم يعد قادراً على محو صور تلك البيوت، و أولئك الأطفال الذين يسكنونها و هم عائدين من مدارسهم.

فقر....

فقر بماذا؟

هل هو فقر مادي؟ حسنٌ، هذا الفقر المادي لم؟ و بلد كالهند أو مصر أو الجزائر لديه من الثروات الطبيعية و طاقة العمل البشرية و احتمالات التطور الصناعي و الثقافي ما لا يتوفر لبلاد كثيرة.

لا أستثني بلدي سوريا من المقارنة، و لا بلداً كالبرازيل مثلاً، فكل هذه البلاد لديها طاقات اقتصادية مهمة جداً. لا تستثمر بشكل صحيح أو أن عائدات هذه الاستثمارات تذهب بعيداً إلى أماكن تجمع الرأسمال في البنوك المتعددة الجنسيات.

هل هو فقر روحي؟ حسنٌ، ما السبب في هذا الفقر الروحي؟ و بلد كالهند التي أخرجت أكبر مستعمر مر على الأرض دون عنف، يلد يحمل في تاريخه واحدة كم أهم ثقافات و فلسفات الحياة و السلام و المساواة، مصر التي تعرف من المدنية و الحضارة ما يلزم أمم قارة كاملة أن تجمعه، أم الجزائر التي قدمت مليون شهيد كي تتخلص من استعمار جثم 140 سنة على قلوب و أرواح الناس، فخرج المستعمر و ماتت الأرواح.

أم أحدثكم عن بلدي؟ عن بلد قرأت تاريخه في الكتب، و شاهدته في شوارع و حارات و أزقة مدنه؟ بلد مر عليه آلاف السنين، و آلاف الأجيال، المستعمرين و الطغاة و المفكرين والأدباء، الخلفاء و الأمراء، الآلهة و الأنبياء. حمل سفنه و قوافله المدنية و الحضارة و أرسلها في كل أصقاع الأرض.

إن كان لا بد لي من السؤال أود أن أسألكم، ما الذي تغير فينا حتى بات همنا فردياً، و بات خلاصنا فردياً، و باتت حياتنا تملكاً، بات التطلع داخلنا ليس إلى حرية الذات بل إلى عبودية المادة، ليس إلى فردانية شخصياتنا بل إلى روح القطيع المساق إلى حتفه مطأطئ الرأس، يخاف حتى من ثغاءٍ قد يخرج من فمه فينبح عليه كلب الراعي ليسكته.

هل بتنا فارغين و بائسين لدرجة أننا نرى ما حولنا من تغير فنقول: ما لهم لا يرضون، و هل في الإمكان أحسن مما كان؟

هل بتنا جثثاً هامدة لا تقوَ حتى نفخ التراب و الغبار من حولها لترى أن الحياة سبقتنا بمسافةٍ لو ركضنا بأقصى سرعتنا فلن نلحق بها؟

هل استسلمنا لقدرنا و قبلنا أن نكون على هامش الحياة، حياتنا نحن، مستقبلنا نحن؟

هل أصبح الهواء ثقيلاً في رئتينا حتى عجزنا عن التنفس و توقفنا عن الإحساس بجدوى الحركة في الحياة؟

هل توقف الدم عن الجريان في عروقنا واستبدلناه بالمحسوبيات و الرشاوى و الواسطة؟

هل أصبحت أرواحنا ضيقة مضغوطة إلى حد أن تباع و تشترى في بورصات السوق و طاولات القمار في الفنادق؟

إن لم نكن كذلك، ألا يحركنا من الداخل شعور بالحاجة للتغيير؟

ألم يحن الوقت لتغيير؟ تغيير فينا، قبل أن يكون خارجنا؟؟؟

الحياة جمعية و الخلاص جمعي و الهم جمعي و التغيير جمعي و النتيجة جمعية، و لنا أن نهرب من هذه الكلمات، و لكنها ستلاحقنا، كلما هربنا و هرمنا، سيبقى في قاع كل منا، تلك الروح التي لا تنام، لا تموت لا تقهر، ستظل حية شاهدة أن هنا كان بشر أداروا ظهرهم لمسؤوليتهم تجاه أنفسهم و تجاه جماعتهم، تجاه تاريخهم و تجاه أجيال خلت وأجيال ستأتي.

للفقر أوجه عديدة في الظاهر، ووجه واحد في الحقيقة، كلما ازداد فقر الروح و الحياة، صار الإنسان بائساً أكثر

30-01-2011