The Sea Elder......

شيخ البحر

منجل ومطرقة


ظهيرة يوم 16 آذار 2011، وبينما كنت في طريقي لموعد عمل، مررت قرب إحدى صروح النضال العمالي العالمي "اتحاد نقابات العمال" وداعبت أذني موسيقى لطالما عشقتها عندما كنت لا أزال أبحث عن مثال أعلى في حياتي، كانت موسيقى لمارسيل خليفة لأغنية باسم الجسر، تقول يعبرون الجسر في الصبح خفافاً، أضلعي امتدت لهم جسراً وطيداً.

وكان الهواء اللطيف يلوح عدداً من اللافتات المعلقة من حولي، كتب عليها المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي السوري، وشعار المطرقة والمنجل، الأحمر اللون، ذلك الأحمر الذي صبغ أعلاماً عديدةً استقت من دم الشهداء والمناضلين وجودها ومعناها. رقص قلبي طرباً للموسيقى ولمعت عيناي بريقاً أشاع القشعريرة في جسدي، كم أعشق هذا اللون وهذه الموسيقى وهذا الشعار.

وأنا أقترب من المكان كنت أرى حولي سيارات فارهة الطول والعرض، متشحة بلون الغربان، وتحمل شعارات وأسماء رأسمالية صرفة، وأفكر بيني وبين نفسي وألمح لرفيق دربي بأن ثمن ضوء إحدى هذه السيارات يكفي بإطعام عائلة فقيرة لمدة تزيد عن الستة أشهر.

كنت أعزي نفسي وأنا أسير بين السيارات بأن لا زال في القلب أمل، وأن احتفالاً كالذي يحصل قريباً هو أمل، أمل لعائلات فقيرة كثيرة، وكانت نفسي تنصت بانتباه، ودون تعليق، ولكن بحذر، خوف كل نفس على صاحبها من الصدمة، الصدمة التي تعثرت بها بعد عدة خطوات، عندما اكتشفت بأن هذه السيارات التي سخرت منها لعدة دقائق، كانت هي نفس السيارات التي هبط منها قيادات وأصدقاء الحزب الشيوعي السوري، نظرت ذاهلاً إلى إحدى هذه السيارات التي كانت تقل عجوزاً عمره ينوف على ثمانين عاماً يهبط من سيارته التي يقودها سائق خاص.

تجاوزت المهنئين والمستقبلين وذهبت لموعدي الذي لم يكن بعيداً عن الاتحاد، والغصة تملأ صدري، وقلبي شارد وعقلي ذاهل.

لقد كان أمام الاتحاد عدد من السيارات تبلغ أثمانها ما يقارب عمر أولئك العجائز الذين هبطوا منها، وما يكفي لإطعام فقراء بلدي لعدد أيام ليس بقليل، وله أن يقارب السنة، أو يزيدها بقليل.

عندما خرجت من موعدي، وعدت أدراجي باتجاه مقر عملي، كان علي أن أمر ثانية من أمام اتحاد نقابات العمال، ولكن هذه المرة كانت موسيقى مارسيل خليفة قد توقفت، ومن داخل الاتحاد كان صوت أحد الرفاق يعلو فوق ازدحام الشارع المجاور، وهو يتبجح أمام رفاقه بانجازات الحزب وتوجهاته المستقبلية تحت مظلة الجبهة الوطنية التقدمية ويحلل بدقة وضع البلد الداخلي والاقليمي والدولي، ويمتدح ثبات موقفنا من القضايا المصيرية، وربما جاء على ذكر مكتسبات الطبقة الكادحة والعاملة، واقتصاد سوريا الذي يسجل معدلات نمو عالية، ونسبة البطالة التي تضمحل مع خطط الدولة الخمسية.

غير بعيد عن ذلك المكان، كان هناك آخرون من سكان بلدي يتظاهرون أو يعتصمون، عائلات المعتقلين، معتقلي الرأي والضمير، الذين يقضون محكومياتهم في سجن مدني عوضاً عن سجن صيدنايا-السياسي، كي لا نعطي أي ذريعة لمنظمات دولية أو محلية باستغلال الحادثة والقول أن لدينا مساجين سياسيين.

أولئك المتظاهرين كانوا يمارسون حقهم الدستوري في الاعتصام والتظاهر والتعبير عن النفس والمطالبة بالإفراج عن ذويهم، معترضين على العفو الذي طال العديد من الأفراد الذين كانوا في السجون "المدنية" واستثنى أولئك الذين يملكون ألسنة أوهنت أو كادت أن توهن نفسية الأمة، واستقوت بجهات خارجية معادية للثورة.

كنت أبتعد عن اتحاد نقابات العمال وعن صوت الرفيق الثوري الذي أمضى نصف عمره مناضلاً أو على الأقل عضواً في حزب مناضل، والنصف الآخر أو ما عاشه منه في التنصل من النصف الأول، وفي بالي حق الانسان الذي يعيش في هذا البلد في التعبير عن رأيه، الحق في التظاهر والاعتصام، حق كل فرد فينا أن يعبر عن فيض المشاعر تجاه فلسطين، تجاه تونس ومصر، تجاه مجازر ليبيا، تجاه ما يجري في اليمن والبحرين، حقه في أن يعبر عن ما يجول في خاطره من أحلام وأمنيات لهذا البلد، هذا البلد الذي نحمله في داخلنا جميعاً، حملناه في داخلنا مذ كنا نتعلم أول دروس الحياة.

لم أكن أعرف في تلك اللحظات، أن المتظاهرين، قد فرقوا بالقوة، وتم احتجاز بعضهم وتم اقتياد البعض منهن تحت التهديد إلى فرع أمني، تحت حجة أن بعض المنسدين يقومون بإطلاق شعارات تخالف هدف التجمع.

ربما كانوا مئة، أو مئة وخمسين شخصاً، ربما أصبحت أسماء بعضهم أو وجوههم معروفة لدى العديدن، لأنهم ناشطون في أغلب النشاطات أو التجمعات أو المطالبات. قد يكون بعضهم قد لمس سقف المسموحات في بلدي مرة أو مرات.

بعضهم قد تعرضوا لمضايقات بينما قضى بعضهم بعض الوقت في ضيافة أحد الفروع الأمنية، ربما حملوا صور أولادهم ورفاقهم وربما قال بعضهم لا للظلم ولا للتعسف، ولكنهم لا يزالون مواطنين سوريين ولا يزالون أبناء بلدي، أبناء سوريا التي تتسع للجميع، دون تمييز، ديني او طائفي او مذهبي او طبقي او اجتماعي.

لم أكن هناك، ولم أكن في التجمعات التي حصلت قبلها، ولكن أحس بأنني مدين لهؤلاء المعتصمين بهذا النص، عله يكون شاهداً ولو لم يكن شاهد عيان، كي لا تمر وقفتكم دون ذكر أو أهمية، كي لا تكونوا وحدكم في الساحات والطرقات.

عودة للمنجل والمطرقة

احترام هذا الشعار المثل، واجب على كل من يؤمن به، وعليه، لا أقدر أن أفهم قيادياً في حزب شيوعي يركب سيارة كتلك التي رأيتها ظهر اليوم.

إن لم تعودوا قادرين على حمل هذا الشعار، فاتركوه. فهو ليس لكم أصلاً، هو لعامل يحمل مطرقة ولفلاح يحمل منجلاً. ولانسان يحترم الاثنين كما يحترم نفسه.

إهداء النص

إلى كافة معتقلي الرأي والضمير، إلى كافة الفلاحين والعمال في سوريا، إلى الانسان القابع في مكان ما داخل كل منا بانتظار حريته.

لك أنتِ، التي تحتاج إلى خطوة صغيرة لتتغلب على خوفها الداخلي.

سوريا للجميع....






عربي – كردي – شركسي

أرمني – تركمان – آشوريون

يهودي - مسيحي - مسلم

ملحد – متصوف

سني – شيعي – علوي – درزي

اسماعيلي – مرشدي – يزيدي

أرثوذكس – كاثوليك – سريان

أرمن – لاتين – بروتستانت



كم لي أن أقسم ما ذكرت أعلاه إلى أقسام أصغر؟ وكم من التقسيمات أغفلت دون قصد ولكن لعدم معرفتي بها؟


مرت سنة 2010 وانقضت، مر كل منا بالكثير، أما أنا فقد أتيحت لي الفرصة أن أتعرف بلداً من جديد.

في أغلب سني عمري الماضية، كانت سوريا هي الخريطة التي درستها في كتب الجغرافيا، وحفظتها من هناك عن ظهر قلب،

أحببتها بالفطرة فهي البلد الذي ولدت فيه وتعلمت لغة أهله، وقليلاً من لهجاتها أو لكناتها.

لم أعرف الكثير من التقسيمات القومية أو الدينية أو الطائفية، فقد نشأت في أسرة حتى المتعصب فيها لم يكن ليحدثني عن هذه التفاصيل.

قرأت عن الأنبياء جميعاً كما الصحابة وتاريخ المنطقة قصصاً وروايات، لا أزال أحفظ الكثير منها، ولم أدرك كطفل أو مراهق معنى هذه القصص وانعكاسها في المجتمع وتقسيماته.

كبرت وبت أعرف القليل الذي يزيد مع كل يوم، ولكن وكوني تعلمت حب البلد بالفطرة، لم أتوقف يوماً لأسأل ما الذي أحبه وكيف أحبه؟؟؟

بالعودة إلى 2010، كان الطريق من دمشق إلى الساحل السوري، هو الطريق الوحيد الذي أعرفه تقريباً، فأنا من اللاذقية، وأقربائي يقطنون في مدن الساحل، والباقي منهم يعيش في دمشق، حمص التي أمر بها بخجل ودون أن أعرفها حقاً هي التحويلة التي لم أكن أفهم ماذا تعني، التحويلة التي تفصل بين طريق الساحل (طرطوس – بانياس – جبلة – اللاذقية) وطريق الداخل (حماة – إدلب – حلب) والبادية والمنطقة الشرقية (تدمر – الرقة – دير الزور – الحسكة)

مدينة واحدة منها مفارق طرق تأخذك إلى مدن هذا البلد وتقصيك عن مدن أخرى.


لم أزر حلب بعد أن كبرت سوى مرات قليلة، وكانت زيارة عمل أو زيارة ليلية.

أما المنطقة الشرقية والبادية فكانت أبعد من أن تصلها أحلامي.

ناهيكم عن أن جنوب بلدي الذي يحوي عدة محافظات والكثير من المدن والقرى، كان أيضاً بعيداً ما عدا القنيطرة، القنيطرة المحررة والقنيطرة المهدمة والقنيطرة المحررة بين العديد من الأقواس.

كنت اليوم في مدينة القنيطرة، وأنا أقود السيارة كان شريط الذاكرة يعرض أمامي الكثير من الصور التي التقطتها عيناي خلال 2010.

إدلب ومنها البداية، طرطوس، حماة، درعا، دير الزور، تدمر، اللاذقية، حلب، حمص. وعلى الطريق بين هذه المدن العديد من الصور وأشرطة الفيديو التي أحتاج إلى الكثير من الأقراص لأفرغها جميعاً من ذاكرتي.

بعد اكتشافي مدى جهلي بهذا البلد الذي أحب بالفطرة، بات لزاماً علي أن أعرفه، أعرف طرقه وتضاريسه، حضاراته التي مرت ولا تزال مستمرة، مدنه وقراه، سكانه وحياتهم. كي أدرك معنى الحب الفطري الغير واعي، وأرى إلى أي مدى أقدر أن أحوله إلى حب واعٍ.


بدأت مع مجموعة من الأصدقاء برنامج زيارات إلى بلدنا الذي نسكن، وفي بالي خطة غير واضحة المعالم، ولكنها واعدة، في كل شهر نقوم بزيارة لمدينة سورية، نزور آثارها إن وجدت وما أكثرها طبعاً، نمشي على أقدامنا حيث يسمح المكان، نتجول ونشم الهواء والتراب وعبق البشر القاطنين، نرى تفاصيل حياتهم بالقدر المتاح، نفهم أبعاد المكان الذي يحدد بلدنا على الخريطة، ننمي الوعي الذي يقول إن سوريا أكبر من منزلي وحارتي ومدينتي ومحافظتي، أكبر من طائفتي وديني وقوميتي، يكسر ولو بعد حين الحاجز بيننا، نحن سكان هذا البلد، يكشف الستار الذي يحجب عنا الرؤية بأن الظلم واحد والفقر واحد والاسمنت واحد والاسفلت واحد ونفوس البشر المهانة. إن البلد هذا البلد سوريا هي بلد واحد للجميع، لا أحد له الحق أن يحتكرها، أن يقول أنها بلده لوحده، هي بلد كل فرد منا، ولها علينا من الواجبات ما يضعنا أمام مسؤولية، ولنا فيها من الحقوق ما يضعنا أمام ذات المسؤولية. مسؤولية أن نحترم كوننا سوريين، أن نحترم وجود الآخر، أن نحترم حقه بالاختلاف، أن نطلب منه احترام وجودنا وحقنا بالاختلاف، أن ندرك أن معركتنا الحقيقية هي مع أنفسنا أولاً قبل العدو المحتل أو الفقر أو مصادرة الحريات أو التدخلات الأجنبية ومصالحها، أو هجرة شبابنا أو إيجاد مسكن للزواج، أو تربية طفل أو فقدان أهل، إلى العديد من تفاصيل حياتنا التي نغرق في تفاصيلها حتى الثمالة.


في زيارتنا لبلدنا ورحلة اكتشافنا لهويتنا، لم أكن قادراً على نسيان التشبيه الذي سمعته مرة عن سوريا

هل من أحد منا لم يسمع أو يرى قطعة موزاييك، تلك القطع الصغيرة الملونة التي تجتمع مع بعضها لتصنع تحفة فنية؟

تلك هي سوريا، هي مزيج من كل ما كتبت في البداية وأكثر، هي مزيج كل هذه التلاوين ومزيج عدة آلاف من السنين والمدنية والحضارة التي أنتجت لونها الخاص بها، تحفتها الفنية التي لا شبيه لها في أي مكان آخر، دون عصبية ولكن مع فردانية موزاييك هذا البلد.

الأطفال في بلدي لهم نفس البراءة، قد تسلب منهم ولكنها تولد معهم.

الشباب في بلدي لهم نفس الهموم، قد يهربون لحلول فردية أو يعيشون وهم أنهم يعانون لوحدهم، ولكنهم غارقون في أحلام تأمين حياة إنسانية أفضل، حتى لو كان يبدو للعديد منهم أن البديل هو حياة مادية مريحة أو مترفة.

الشيوخ في بلدي لهم نفس النظرة، تلك النظرة التي تنظر بأسف إلى هذا البلد، متمنية لو قدرت أن تضع بيد شبابه فرصة أفضل

الأرض في بلدي هي المختلفة، مختلفة لأنها لا تعترف بالتقسيم.

تدرك أنها كلٌّ واحدٌ، وأن استنزافها من قبل قاطنيها أو بعضهم لن يعود بالخير على أحد منهم.


عندما أخذت طريق الداخل أول مرة، كانت الرهبة والدهشة تتملكني، فقد اكتشفت أن طريق الساحل ليس هو الطريق الوحيد في سوريا، وتآلفت روحي مع الطريق ومع البشر الذين تجمعوا على طرفي الطريق، منشئين مدناً وقرى، منشئين حياةً فيها من الخصب والخصوصية ما يميزها كثيراً عن مدن الساحل.

وكانت رحلة البادية بين دمشق ودير الزور مروراً بتدمر، إحدى أمتع الرحلات في حياتي، فلطالما حلمت أن أزور البادية وأن أتعرف طبيعتها وخصوصيتها، وكانت الحقيقة أمتع وأجمل وأغنى من الحلم.

ذلك الامتداد اللانهائي للمسافة تلك العلاقة بين لون الرمل ولون الجمال ولون المسكن الذي يقطن فيه بدو وحضر تلك المنطقة، ذلك السكون الذي يلف مدناً وبشراً، تلك الحكمة والفطرة التي تراها بعيون طفلٍ يلعب كما في كهلٍ يقود قطيعاً.


أما الجنوب، فكما يقول درويش، فكان قصياً عصياً علي، لأن الجنوب يصيب مقتلاً مني في كل مرة أدير وجهي صوبه. ففي الجنوب مدينتي المحتلة، وبلدي المحتل. سمعتها مراراً، فلسطين لنا أكثر من الفلسطينيين، ولم أكن أدرك معنى الكلمة، إلا عندما زرت القنيطرة، الشعور بأن جزءاً منك محتل مغتصب مأخوذ منك بالقوة، قاتل. ولكن المؤلم أكثر، هو شعورك بالعجز عن فعل أي شيء.


أشعر بالكره تجاه قوات الأمم المتحدة، المدعوة بقوات حفظ السلام وفك الاشتباك، قوة غريبة موجودة على أرضي تحول بيني وبين أرضي المحتلة، واتفاق مهين أبقى جبهة الجولان مقفلة في وجوه العديدين من شباب بلدي. منظر المرصد المزروع في قمة تل أبو الندى يشعرني بالغصة في كل مرة أزور المدينة، منظر مزارع الرياح التي تحول هواء بلادي إلى طاقة يسخرها المحتل في خدمة مصالحه، وكمية أمطار تفيض عن حاجة المنطقة بأسرها، وتسحب لتروي مستعمراته

كل هذا يحدث تحت أعين دوريات الأمم المتحدة، التي تتصرف كما لو أنها صاحبة الأرض، فتمنع أصدقاء لنا من مرافقة بعثة دولية لجلب التفاح من الأرض المحتلة ليتم بيعه في بلده الأم


أطلت الحديث، كما جرت العادة، وربما كان النص غير مترابط أكثر من العادة، ولكن وكما العادة، لم أعتد على الكتابة بفعل إرادي بعد، فأكتب عندما تجتاحني الكلمات، وما زلت أفي بوعدي لها، بان لا أعدل أيا من نصوصي قبل نشرها


سوريا هي نحن، نحن جميعاً، منبتنا واحد، ومصيرنا واحد. الخلاص ليس فردياً والحل ليس فردياً.

دعوة مفتوحة للجميع، لمشاركتنا رحلة اكتشاف سوريا من جديد، لعل في هذا طريقةً لفهم ذلك الحب الفطري الذي يدفعنا جميعاً للقول "أنا سوري" حتى ونحن نحس بأننا نستحق أكثر في هذا البلد.